عشرة أعوام

يقولون بأن الفرق مابين السنة والعام هو أن السنة لها معنى سلبي يدل على فترة زمنية صعبة، بينما يدل العام على فترة من الخير والرخاء. لهذا تراني مُترددًا في كتابة عنوان هذه التدوينة التي أحتفل فيها بمرور عشرة سنوات/أعوام على دخولي عالم التدوين. هل كانت سنوات أم أعوام؟ رُبّما مزيجٌ من هذا وذاك، لكن دعنا نتّفق على استخدام كلمة (أعوام) كنوع من نشر الإيجابية والتفاؤل.

لكن هل قلتُ أعلاه (أحتفل)؟ لا أعتقد أنه يحق لي الاحتفال بمرور عشرة أعوام على كتابة أول تدوينة في هذه المدوّنة بعد أن أهملتها كثيرًا في الأعوام القليلة الماضية، لأسباب قد أتطرق لها في نهاية هذه المقالة.

في مثل هذا اليوم قبل عشرة أعوام كتبتُ أوّل تدوينة لي، كان من الرائع أن أشعر أخيرًا أنه قد أصبح عندي منصّة إعلامية أستطيع فيها إخراج ما بداخلي. التدوين يُشبه أن يكون لكل شخص صحيفته الخاصّة به، لكنها صحيفة لا تحتاج إلى طباعة وتوزيع ولا حتى للحصول على ترخيص. لا تستغرب هذا التشبيه الذي يبدو بديهيًا الآن، فقد كان النظر إلى الأمر من هذه الزاوية مُثيرًا في تلك الفترة.

في تلك الأيّام بدا لي التدوين تطوّرًا إعلاميًا هائلًا سيُغيّر الكثير. فقبل ذلك بسنوات، ورغم صِغَر سنّي ورغم كل كتب (التربية القومية) تلك التي درستها ورغم أننا نشأنا لا نعرف من الإعلام إلّا القناتين الأولى والثانية وثلاث صحف تعيسة، ورغم أن أحدًا لم يُعلّمني أو يشرح لي، عرفتُ أننا نعيش داخل قوقعة يُراد لنا فيها مُشاهدة الرأي الواحد، وقراءة الرأي الواحد، والاستماع للرأي الواحد.

سئمت لا شعوريًا فكرة أن يكون هناك من يفرض علي ما يجب أن أُشاهده أو أسمعه، وذلك منذ كنتُ طفلًا. كُل الفضل كان لمُسلسل (عدنان ولينا). نعم لا تستغرب، (عدنان ولينا) كان البداية حيث كُنت ككل الأطفال أُتابع المسلسل على البث الأرضي للقناة الأردنية (لم يكن هنالك بث فضائي بعد بالطبع)، حيث كان يُمكن التقاطه في دمشق. للأسف تزامن بث الحلقات الأخيرة من المسلسل مع حرب الخليج الثانية التي انضوى فيها النظام السوري تحت جناح قوّات التحالف ذات القيادة الأمريكية ضد نظام صدام حسين، لابد أنه كان من الممتع الحديث بشماتة عالية عن (اصطدام البعث بالبعث)، لو كان الفيسبوك موجودًا في ذلك الحين لشاهدنا مئات رسوم الـ Meme التي تتطرق إلى الموضوع، ولانتظرنا بلهفة قراءة تعليقات وتبريرات (الرفاق) البعثيين السوريين حول كيف انتهى الأمر بنظام البعث السوري (العربي القومي) في الانضمام إلى حلف غربي (إمبريالي مُتصهين كلب!) للهجوم على البعث العراقي الذي يمتلك نفس أهداف الوحدة والحرية والاشتراكية والقومية. كان من الرائع والمُسلّي مُراقبة ومُشاهدة ردود أفعال الرفاق، لكن هذا ليس موضوعنا على أية حال.

دعونا نعود إلى صلب الموضوع، وهو (عدنان ولينا)، حينها قام النظام السوري بالتشويش على بث القناة الأردنية بسبب الخلاف السياسي مع الأردن لأنها كانت من الطرف الآخر الذي رفض الحملة ضد العراق، وكان عدم تمكّني من مُشاهدة الحلقة الأخيرة من (عدنان ولينا) حرقةً كبيرةً في قلبي الذي لم يتجاوز الثمانية أعوام من العمر.

النظام لم يتمكن من التشويش على بث عشرات القنوات اللبنانية والتركية التي تصل إشاراتها عبر البحر، حيث يتمكن القاطنون في المدن الساحلية من التقاط بثها، وأذكر أنني شعرت بالصدمة للمرة الأولى التي ذهبنا فيها إلى طرطوس أو اللاذقية (لا أذكر) بهدف السياحة واكتشفت أنهم يستمتعون بعشرات القنوات، كان من الرائع بالنسبة لي أن أتمكن من مُشاهدة أفلام الكرتون طوال النهار، كنت أتمنى أن أصدف الحلقة الأخيرة من (عدنان ولينا) في كل زيارة لي إلى اللاذقية أو طرطوس على إحدى تلك القنوات الفالتة من رقابة النظام لعجزه التقني عن حجبها، لكن كان مُقدّرًا لي ألّا أُشاهد تلك الحلقة الأخيرة إلا في زمن اليوتيوب بعد أن فقد الأمر لذّته (لهذا لم أُشاهدها حتى الآن). كان من المُلفت أنه وبعد انتهاء فقرة أفلام الكرتون على الأقنية اللبنانية أو التركية، لا توجد لديهم برامج (مع الحرفيين) و (مع الفلاحين).

بعد ذلك بسنوات جاءت المحطّات الفضائية، وحاول النظام منع الأطباق اللاقطة وأجهزة الاستقبال في الفترة الأولى لكن لم ينجح في ضبط هذا الموضوع فأُسقِط في يده، وحينها بدأت الناس بالخروج من القوقعة شيئًا فشيئًا، واكتشفوا أنهم ليسوا مُضطرين لمُتابعة (أرضنا الخضراء) وكل تلك البرامج ذات الطابع الاشتراكي لمُجرّد أنه لا يوجد شيء آخريُشاهدونه.

بعدها جاءت الإنترنت، وكنتُ أتصفحها من خلال بعض مقاهي الإنترنت النادرة في دمشق وبسرعة بطيئة جدًا وسعر باهظ كان يجعل مصروفي القليل يتبخّر بسرعة عجيبة، ثم تمكنت من الحصول على أول اشتراك لي بالإنترنت بشق الأنفس، وكنت أحاول الاتصال بشق الأنفس مُنتظرًا انتهاء طنين المودم إيّاه. وكانت حينها المُنتديات هي موضة تلك الفترة، والمكان الوحيد الذي تستطيع فيه الكتابة للتعبير عن رأيك والنقاش مع الآخرين، لكنك مُرتبط دائمًا بسياسات مؤسسي المُنتدى حيث يتم فرض رقابة على كلامك وحذفه لدى أوّل اصطدام، لهذا اتّخذت عهدًا بعدم حذف أية تعليقات على مدوّنتي منذ قمتُ بإنشائها حتى الآن، ما لم يحتوي التعليق على كلمة نابية.

الرحلة كانت ممتعة في هذه المدوّنة، وقد خصصت مُعظمها للكتابة عن قضية حجب المواقع في سوريا، وتفاجأت بعدها عندما شاهدت بعض المواقع والمُنظمات الحقوقية تنقل وتترجم بعض ما أكتب في هذا الموضوع إلى لغات أُخرى، فقررت أن أكون دقيقًا جدًا وواقعيًا فيما أكتب.

حتى أثناء فترة اعتقالي (الذي لا علاقة له بالمدونة ولم يكن بسببها) أنقذتني هذه المدوّنة بشكل لم أكن أتوقعه، وبشكل أكثر تحديدًا مقالة (طبائع الاستهبال) التي أتحدث فيها بأسلوب ساخر لا يخفى على أحد عن (فبركة) وسائل الإعلام للثورة السورية، وأتحدث في تلك المقالة ساخرًا عن قيام (قناة الدنيا) وما شابهها بكشف (التضليل الإعلامي). تتصدر المقالة الصورة الشهيرة من التلفزيون السوري والتي تتحدث بأن (أهالي حي الميدان خرجوا لشكر ربهم على هطول الأمطار) وأتحدث كيف قامت (قنوات التضليل الإعلامي) بإظهار هذا الاحتفال بهطول المطر على أنه (مُظاهرة). رغم نبرة السُخرية التي يُمكن لكل من يقرأ المقالة أن يعرف منها بأني أسخر من الإعلام الرسمي، فَهِمَ من قاموا بالتحقيق معي عند اطّلاعهم على هذه المقالة بأنني أتحدث بشكل جدي، وأنني أقف بالفعل في صف الإعلام الرسمي ضد (المؤامرة الإعلامية). الغريب أنها مرّت على أكثر من شخص برتب مُختلفة ولم يفهم أحد بأنها سُخرية عليهم. لكن على أية حال تم النظر إلي حينها بفضل هذه المقالة بأنني (شخص جيّد) أفهم (المؤامرة) وإن كان قد (غُرِّرَ بي قليلًا). عندما شاهدتُ بأنهم بهذا المستوى من الثقافة، تنفستُ الصّعداء وضحكت في سرّي وعرفتُ أنني سأكون بخير واستخدمت هذا لصالحي وكنتُ هذه المرة أنا بالفعل من مارس على المُحققين (تضليلًا إعلاميًا) تشيب لهوله الولدان، لكن هذه قصّة أخرى فيها تفاصيل كثيرة قد أحكيها لاحقًا.

نعود لسبب تقصيري في الكتابة هنا، المشكلة هي أن ما يحدث أصبح أكبر مما نستطيع التعبير عنه، أو حتى وصف مشاعرنا حياله، لا تستطيع أن تكتب شيئًا وتشعر بأنك على مستوى الحدث، أضف إلى هذا بأن شبكات التواصل الاجتماعي أساءت لي جدًا من هذه الناحية حيث أصبحت زاوية سهلة وسريعة لـ (فش الخلق) بجملتين، تعود بعدهما إلى ممارسة ما كنت تفعله. لكني سأحاول الخروج من هذه الدوّامة بشكلٍ ما والعودة لإحياء مدونة (أنس أونلاين) بنفس الحماس الذي بدأت به قبل عشرة أعوام.

9 رأي حول “عشرة أعوام”

  1. هابي بيرثداي مدونة أنس
    🙂
    فعلاً من سيئات الفيسبوك إنك صرت تفش خلقك بكلمتين وتريح راسك من الكتابة الطويلة، غير إنك مضطر تمارس سياسات خصوصية وتحصر كتاباتك بأصدقائك أو جمهور الفيسبوك عموماً، وكمان كتابات المدونة بتبقى أكثر مصداقية واعتماد لهيك بيتم نقلها وترجمتها من جهات ثانية متل ماصار معك.
    – بالنسبة لموضوع التضليل الإعلامي فرغم إني متأكد من غباء المحققين على مستوى درجاتهم لكن السبب برأيي أن الأشخاص اللي ما بيعرفوك مباشرة وبيعرفو توجهاتك ممكن يمر عليهم الموضوع بسهولة وهذا واضح من بعض التعليقات الي أخدت محمل الجد. لذلك لولا فائدتها بالتحقيق كنت قلتلك كان لازم تعلي مستوى السخرية شوي 🙂

    رد
  2. صديقي أنس
    انا اتابع مدونتك منذ مدة و دائما ما كنت استمتع بكل تدوينه تكتبها سواء كانت تقنيه او سياسيه او حتى فشة خلق كما تقولون في الشام.
    وقد لاحظت فعلا انك اصبحت مقلا في كتاباتك في الفتره الاخيره و كنت دائما التمس لك العذر واقول في نفسي بالتاكيد لديه ما يكفيه من المتاعب ولا وقت لديه , وكلنا نعلم الظروف الصعبه التي مرت و مازالت تمر عليك وعلى كثيرين اخرين . الذين رفضوا ان يسيروا مع التيار و ان يقادوا كما تقاد الخراف .
    ولكنني كلما دخلت مدونتك بحثا عن جديد لا اجده صحيح انني اصاب بنوع من خيبة الامل الا انني دائما ما كان عندي شعور بانك ستعود و تكتب شيئا لهذا لم اتوقف عن زيارة هذه المدونة منذ سنوات من حين لاخر .
    انا ايضا واجهتني نفس المشكله في كتابة التدونيات وعدم ايجاد الوقت لها , في الحقيقة الوقت موجود دائما ولكن نحن من نفقد الحماسة والطاقه للكتابه احيانا لاسباب عديده اغلبها غير منطقي.
    لذلك ارجو ان لا تطيل غيابك هذه المره وحتى ان لم تجد وقتا اصنع وقتا ولتعلم ان هنالك اناس في هذا العالم يشاركونك افراحك واحزانك وحتى وان لم نتقابل ابدا .

    رد
  3. نتمنى تخصيص القليل من الوقت لهده المدونة و لو مقالة شهريا… بانتظار عودتك الى التدوين مرة اخرى في القريب العاجل انشاء الله

    رد
  4. عيد ميلاد سعيد للمدونة الجميلة وإن شاء الله المزيد من العطاء والكتابة.
    العدو اللدود للمدونات في هذا الوقت هو الشبكات الإجتماعية

    رد
  5. ياخي من سيئات الفيس بوك والتوتير وشبكة الانترنت بشكل عام
    انها عملت قيمة لناس ما بتستاهل (مثلك)
    حل عنا يا
    مش لاقيلك شغلة غير تقعد تسولف
    الله يسامحك يا بشار الاسد (يا اسد الاسود) ليش ما تخلصنا من هالاشكال بسرعة
    ممكن سؤال مين اعطاك الحق انك تعمل مدونات وتعمل حساب على تويتر وتوجعلنا راسنا
    اي روح حل عنا بلا قرف

    رد
    • اكيد ما رح يعجبك كلامي
      بس اتذكر انك اول عن اخر ما بتستاهل غلبت اني اقعد اقراءلك
      عفكرة ما قرات المقال لاني بقرف منك
      عرفت الموضوع من اول تعليق بس
      برجع بقلك حل عنااااااااااااااااااااااااااااااا

      رد

أضف تعليق