قُصاصات

كنتُ في الصف الثاني الإعدادي عندما دخل الموجّه إلى صفّنا قائلًا بحزم وهو يلوّح بالعصا الخشبية التي يستخدمها عادةً في ضرب الطلّاب: “اليوم الساعة سبعة المسا في احتفالية بمُناسبة (تجديد البيعة) للسيّد الرئيس (حافظ الأسد)، ببرج الروس. ولازم كل الصف يحضر، ويا ويله يلي ما بيحضر شو رح يصير فيه”.

هذا جميل، لكنني تساءلت أولًا لماذا الاحتفال بـ (تجديد البيعة) في حين أن (تجديد البيعة) لم يحدث بعد. أعني لماذا لا يتركون الاحتفالات إلى ما بعد (تجديد البيعة) فعليًا وليس قبلها؟ لماذا هذه الاحتفالات التمهيدية التي كانت تجري عادةً في أماكن وساحات مُتفرقة من المدينة؟

لكن السؤال الثاني والأهم كان: ما هي (برج الروس) اللعينة هذه بحق السّماء؟ هل هو برج ما يقطنه الروس؟ هذا ما يوحي به الاسم على الأقل. لم أعرف وأنا في ذلك العمر الذي ما كنت أعرف فيه إلّا الطريق من المنزل إلى المدرسة، بأن هذه إحدى مناطق دمشق. طبعًا استنتجت هذا بذكائي الخارق وعرفتُ أنه عندي هذا المساء مُغامرة هي الذهاب إلى ذلك المكان المجهول المدعو (برج الروس) لحضور الاحتفالية العظيمة.

تسألني لماذا قررتُ الحضور؟ لأن الموجّه هدد بأن من لا يحضر، سيكون عقابه عسيرًا، حيث أخبرنا أنه يتوجّب على كل طالب كتابة اسمه على قُصاصة من الورق وتسليمها للموجّه الآخر الذي سيكون موجودًا في (الاحتفالية). ذلك الموجّه الآخر كان مُخيفًا بالفعل، فبالإضافة لكونه موجّهًا فقد كان يحتل كذلك منصب (رئيس الفرقة الحزبية) أو شيء من هذا القبيل. حيث كان بعض الطلّاب يتغيّبون عن بعض الحصص لحضور اجتماعات حزبية غامضة لا أدري ما الذي يحدث فيها، لكن هذا ما كنت أسمعه. هذه الاجتماعات كانت بقيادة هذا الموجّه كما فهمت.

ذلك الموجّه لم يكن مُخيفًا لأنه رئيس الفرقة الحزبية في مدرستنا، بل لأن مظهره أقرب إلى شكل كلب البولدوغ. أٌقسم أن فمه كان مفتوحًا طوال الوقت وكان يتنفس بشكل سريع طوال الوقت والزبد يتطاير من فمه، ككلاب البولدوغ، أو أكلَب، إن جاز لي التعبير.

المُشكلة أن كلب البولدوغ هذا، كان يبدو -كجميع رؤساء الفرق الحزبية- بأنه شخصٌ من الطبقات المسحوقة عانى الكثير من الفقر والانسحاق في صغره، هذا ما كان يوحي به شكله على الأقل، وأنا أميل إلى هذه النظرية بقوّة، وإلّا فلماذا أصبح رئيسًا لفرقة حزبية؟ إن من يشعر بالزهو والقوّة لمُجرد أنه حصل على هذا (المنصب) لابد أنه شخص لم يعش طفولة طبيعية. وفي مدرسة كانت خاصّة بأبناء الطبقة الوسطى وما فوق، هذا يجعلك تخشى من وجود شيء من الحقد الطبقي لدى أمثال هذا الشخص. لهذا من الأفضل تجنّب شرّه وتجهيز قُصاصة الورق التي تحمل اسمي لتسليمها إليه مساءً أثناء احتفالية تجديد البيعة للقائد الخالد الذي لم يكن قد أصبح خالدًا بعد في ذلك الوقت.

في الحقيقة، كنت أشعر بالشفقة أحيانًا على رئيس الفرقة الحزبية هذا، وللأمانة التاريخية فهو لم يُسىء لي، ولم أره يُمارس الإساءة بحق أي طالب، في النهاية فإن ثمن حذاء أي طالب من طلّاب مدرستنا كان يُمثّل عدة أضعاف الراتب الشهري لرئيس الفرقة الحزبية المسكين، لا أعتقد أنه كان ليجرأ على إيذاء أي من الطلّاب وإلّا سيتكفل والد هذا الطالب أو ذاك بتحويل رئيس الفرقة الحزبية إلى كفتة. وكان -كلب البولدوغ المسكين- يُدرك ذلك جيدًا.

لكني رغم ذلك، خشيت أن تنتقم منّي المدرسة انتقامًا شنيعًا إن لم أحضر احتفالية تجديد البيعة تلك. وتمكّنت بشكلٍ ما من الوصول إلى الخيمة الاحتفالية الخاصّة بتجديد البيعة. أعتقد أنها كانت المرّة الأولى التي أستقل فيها سيّارة تاكسي وحيدًا، لقد شعرتُ يومها وأنا بعمر 14 عامًا على ما أعتقد، بأنّي كبرت. إن لتجديد البيعة بعض الفوائد كما ترى، حيثُ تعرّفت على منطقة جديدة، واستقلّيتُ مُنفردًا سيّارة تاكسي بعد السابعة مساءً. وهذا تطوّرٌ لا بأس به على الإطلاق!

استرشدتُ طريقي عبر تتبع صوت الاحتفال، حيث كانت مُكبّرات الصوت العملاقة تصدح بالأغاني التي تُمجّد القائد الخالد الذي لم يكن قد أصبح خالدًا بعد، وأذكر منها الأُغنية التي تقول (أبو باسل قائدنا، يابو الجبين العالي، تسلم وتصون بلدنا، من غدرات الليالي).

وفي الوقت الذي كنتُ أُفكّر فيه بالكيفية التي سأعود بها إلى المنزل، شاهدت الخيمة الاحتفالية، وشاهدتُ بعض الناس يُمارسون الدبكة بحماس مُصطنع، وشاهدت بعض الأصدقاء يقفون مُتفرجين على هذا الاحتفال. كانت مُكبّرات الصوت ضخمة جدًا، وقد تم صنع حبال من الإنارة تم سرقة الكهرباء الخاصّة بها بشكل بدائي من خطوط الكهرباء الحكومية في الشارع.

كان هناك شخص يرقص كالمجنون ويضحك كالمُهرّج ويتمايل بشكل مُضحك ويحمل عدة أسنان سوداء اللون بشكل كامل، في البداية اعتقدتُ أنه جزء من فقرة ترفيهية ما، لكنني بعد ذلك اكتشفتُ أنه (كاراكتير) حقيقي. أي أن هذه هي شخصيته الحقيقية بالفعل. كان هذا الشخص يُنادي بالهُتافات التي يُريدنا أن نرددها وراءه. في الحقيقة أشعل هذا الشخص الحماس والقلوب، وتعلّقت به الأبصار وهو يهتف بكل ما أوتي من قوّة وبكل ما أوتي من عزم المقاومة والممانعة: “حطّوا الوردة بالكاسة .. أبو باسل ألماسة”. وهو كما ترى هُتاف يليق فعلًا بمستوى الحدث لهذا لم أستغرب ولم أضحك. ما هي الهُتافات التي تتوقعها بمثل هذه المُناسبة على أية حال؟

هُنا اقترب منّي صديق وهمس في أُذني: “شوف هاد، مو مبيّن مُخابرات أبدًا”. مُخابرات؟ هذا المُهرّج لا يصلح أن يكون قردًا في سيرك، لا أدري إن كان (مُخابرات) بالفعل. لكن يبدو أنه شخص هام جدًا حيث كان مسؤولًا عن (إشعال الحماس) في هذه الخيمة. رُبّما هو رئيس الفرقة الحزبية في مدرسة أُخرى، أو مُساعد المُساعد، لمُساعد مُدير مكتب الأمين العام القطري المُساعد لحزب البعث، أو شيء ما من هذا القبيل. لكن مظهره وهُتافاته التي تُركّز بشكل كبير على (الوردة) و (الألماسة) يدُلّان على ثقافة كبيرة كما ترى، مما يعني أنه حزبي بالفعل.

هناك ومن بعيد لمحته: الموجّه الذي عيّنوه كرئيس للفرقة الحزبية في مدرستنا، أو رئيس الفرقة الحزبية الذي عيّنوه موجّهًا، لا أدري بالضبط، كان واقفًا في زاويةٍ ما. فعرفت أنني يجب أن أتوجه إليه وأسلّمه قصاصة الورق التي تحمل اسمي، كي لا يُعاقبني عقابًا شنيعًا يوم غد. كان جميع الطلاب يتجهون إليه ويقومون بتسليمه تلك القُصاصة. وصلتُ إليه وسلّمته الورقة. أخذها ووضعها في جيبه بلا مُبالاة. اللّعنة! حينها أحسستُ بأن الأمر فيه خدعةٌ ما!

عندما أردتُ العودة، لم أجد في جيبي مالًا كافيًا لاستقلال سيّارة تاكسي. ولم أدرِ كيفية الوصول إلى المنزل عبر المواصلات العامة، لهذا واجهتُ حينها صعوبة شديدة في العودة إلى المنزل، وأذكر أني مشيتُ كثيرًا وتهتُ في الشوارع، وسألتُ عددًا من الأشخاص، حتى تمكنتُ أخيرًا من الوصول إلى المنزل بشكلٍ من الأشكال.

في اليوم التالي عرفتُ ما هي الخدعة. هُناك طلّاب لم يحضروا الاحتفال الميمون، ورغم ذلك لم يتلقوا العقاب الشنيع الذي وعد به الموجّه، حتى الموجّه الآخر (رئيس الفرقة الحزبية) لم يبدُ مُهتمًا وكأنه نسي الأمر برُمّته. لقد عادت الحياة طبيعية وكأن شيئًا لم يكن. لقد كانت قُصاصة الورق تلك مُجرّد خدعة. شخصٌ ما طلب من المدرسة جر الطلّاب لحضور الاحتفال، ولا بد أن هذا الشخص هدد مُدير المدرسة بعقاب شنيع إن لم يحضر عدد كافٍ من الطلاب، فطلب المُدير من الموجّه جر الطلّاب إلى الاحتفال وإلّا فإن عقابه سيكون شنيعًا، وبالتالي طلب الموجّه منّا الحضور وإثبات حضورنا بقصاصة ورقية وإلّا سيكون عقابنا شنيعًا.

وأنا الآن متشوّق لمعرفة ما الذي فعله رئيس الفرقة الحزبية بالقُصاصات التي احتوت أسماءنا؟ هل رماها في أوّل حاوية للزبالة؟ وما الذي حلّ برئيس الفرقة الحزبية؟ ما الذي يفعله الآن؟ هل أصبح خبيرًا بالتعذيب باستخدام الكهرباء؟ هل ترقّى إلى منصب مُساعد الأمين العام المُساعد لنائب سكرتير القيادة القومية؟ هل تعرّض منزل عائلته للقصف بنيران صديقة كالعادة فانشق وفرَّ من البلاد؟ هل ما زال حيًّا على أية حال؟ أعتقد بأنّي لن أعرف أبدًا، إن بعض الأسئلة في هذا الكون ليس لها أجوبة على الإطلاق.

3 رأي حول “قُصاصات”

  1. السلام عليكم سيد أنس،
    مُدونة جميلة، وتجديد رائع، أنا على وشك عمل واحدة لي “حجز نطاق وتصميم وما إلى ذلك”.
    قصة القصاصات الورقية المُدون عليها الاسم ذكرتني في المرحلة الثانوية كان لدينا مُوجه مُحترم ولكنه عند الغضب يغضب “غضبةً مُضرية” دخل ذات مرة لصفنا إثر مُشادة بين طالبين وبسبب غضبه كتب أسماء نصف طلبة الصف على الغلاف الورقي لعبة سجائر “حمرا طويلة ورق” بعد أن أزال غلاف النايلون الشفاف وهو يُهددُنا بالفصل واستدعاء أولياء الأمور وترسيبنا وبالتالي حرماننا من الانتقال لـ “الباكالوريا” وشتى التهديدات يمينًا وشمالًا. بعدها دخل أحد المُعلم ليُعطي الدرس فشكونا له القصة وضحك وقال لنا “بعد شوي بيخلص باكيت الدخان وبيكبو وبيكب الأسماء معو وخلصت السولافة*” وهكذا “خلصت وفشلت” قصة المُشادة في صفنا وقصة كتابة أسماء الطلبة الحاضرين للاحتفال/ المهرجان.
    * السولافة: القصة أو الموضوع باللهجة الحورانية.
    بالأخير هنالك شعار آخر يستحق صاحبه عقوبة مخصوصة بعد الثورة “طلبنا من اللـه المدد فأرسل لنا حافظ الأسد” 🙂

    رد

أضف تعليق