عن المؤامرة الكونية … نتحدث

المؤامرة الكونية

ما زلت أذكر جيدًا ذلك اليوم من العام 2011، وأعتقد أننا كنا في الشهر الخامس، عندما كنت في منزل صديقٍ نتنقل بين المحطات الفضائية حين لفت نظرنا خبر عاجل على القناة الفضائية السورية. الخبر كان هامًّا بالفعل حيث يقول: “عاجل: كوليت خوري: سوريا تتعرض لمؤامرة كونية”!

ردة فعلنا كانت ردة الفعل الطبيعية والمتوقعة لكل من يسمع مثل هذا التصريح للمرة الأولى، أي أننا ظللنا نضحك حوالي ثلاث ساعات متواصلة. حسنًا، كي لا تقولوا بأنني أبالغ أعتقد أنها كانت ثلاث ساعات إلا ربعًا. نضحك من التصريح المُضحك (والصادم؟) الخارج من (الأديبة؟) كوليت خوري. فيما بعد قرأت بأنها وصفت القذافي ذات مرة بالكاتب المبدع، وقالت تعليقًا على أحد كتبه بأن القذافي حطّم جميع القوالب الأدبية، وبأن ما قدمه هو “صنف أدبي جديد” يجب أن نجد له عنوانًا … عندها فقط توقفتُ عن الضحك! لكن هذا ليس موضوعنا على أية حال.

إن عشق الإنسان العربي لما يُسمى بنظرية المؤامرة أمر يستحق الدراسة بالفعل، أعتقد بأننا الأمة الأكثر إيمانًا بأننا ضحية (مؤامرة ما) يحيكها ضدنا (الكون كله). توجد نسبة كبيرة جدًا من العرب، ومن السوريين بشكل خاص تؤمن بنظرية (القوى الغامضة التي تتحكم بكل شيء). هذه النظرية هي البساطة ذاتها، ومفادها أنه يوجد مجموعة رهيبة من الأشخاص يجتمعون يوميًا في غرفة مظلمة ما (في قبو البيت الأبيض على الأغلب وهناك من يؤكد أنها في أحد الأديرة الغامضة التابعة لحركة فرسان مالطا أو ربما أصحاب القبعات الصفر (لو كان هنالك شيءٌ كهذا)، يجتمعون يوميًا ويرسمون على وجوهم ضحكة شيطانية وهم يخططون ما الذي يريدون فعله في العالم غدًا. ويحركون الدول والأحداث كحجارة الشطرنج. بالطبع إن هؤلاء الماسونيين/حرّاس الهيكل/فرسان المعبد/أصحاب القبّعات الصفر (أم هم أصحاب القمصان الزرق؟) لديهم هدف وحيد، وهو تعكير صفونا نحن العرب المساكين.

المشكلة ليست هنا، المشكلة هي كما قال لي أبو محمّد صاحب البطّيخة ذات مرة بأننا -نحن العرب- لا قِبَل لنا بهم ولا بمحاربتهم أو معارضة مشروعهم للسيطرة على العالم، لهذا من الأفضل أن نقنع بما نحن فيه ونلتزم (ضرورات المرحلة)، فنحن -كما تقول (أدبيات) النظام السوري- وكما علّمونا في مادة (التربية) القومية (نمر بمنطعف تاريخي)، لا أدري ما هو (المنعطف التاريخي) الذي يستمر لمدة أربعين عامًا، لكن حاول (الانعطاف) معه كي لا تكسر رقبتك، لا تفكّر أكبر منك ودعنا نفكر عنك، إن (المؤامرة) كبيرة ولا قِبَل لنا بها على أية حال.

لماذا يحب الإنسان العربي نظرية المؤامرة؟ هنالك عدة أسباب. لكن معظم هذه الأسباب تتعلق بالجهل، والضعف، والهزيمة النفسية، وقلّة الحيلة. امزج هذا جيدًا مع الرغبة الكامنة بداخل كل إنسان في أن يظهر خبيرًا حكيمًا عالمًا ببواطن الأمور، وستحصل على الخلطة السحرية الحقيقية لنظرية المؤامرة.

إن أبو محمد صاحب البطيخة إياه يجلس يوميًا في ذلك المقهى الشعبي العتيق يستمع له أصحابه باهتمام وهو يفسّر لهم دون أن يغادر خرطوم الشيشة شفتيه كل ما يحدث في العالم على أنه انعكاس لنظرية المؤامرة تلك. أمريكا تريد هذا، الصهاينة فعلوا هذا، الماسونيين خططوا لذاك. خلال ربع ساعة يكون أبو محمد قد وضع تفسيرًا لكل الأحداث السياسية الماضية والمعاصرة والقادمة. إن الجهل والتفسير السهل يمنح الإنسان الجاهل شعورًا بالعظمة والخطورة والخبرة. نحن العرب عبارة عن مجموعة من المساكين يجب أن نرتضي ما فرضه القَدَر علينا، إن المؤامرة لكبيرةٌ جدًا، لكن أكثركم لا يعلمون، -يقول لسان حال مُنظّري المؤامرة-.

المؤامرة، والربيع العربي

شكّل الربيع العربي مادة دسمة ومثيرة لعشاق نظرية المؤامرة. فتجد السؤال البديهي الذي يخطر لهؤلاء -ويجدونه منطقيًا جدًا بالمناسبة!- هو: “كيف ثارت الشعوب العربية فجأةً واحدةً تلوَ الأخرى؟ هذه بالتأكيد ليست مصادفة”!. بالطبع السؤال يجب أن يكون أساسًا: “كيف تحمّلت الشعوب العربية حكامها كل هذه الفترة؟؟”. هذا هو السؤال المنطقي والحقيقي، لكن هؤلاء يرون الأمور من منظور مختلف، منظور نظرية المؤامرة.

إن كان الإنسان العربي البسيط الجاهل أو حتى بعض من يعتبرون أنفسهم (مثقفين) يحبون نظرية المؤامرة لأنها تجعلهم يظهرون بمظهر الخبراء وتعطيهم تفسيرًا لأي حادثة في العالم، فإن الأنظمة العربية تحب نظرية المؤامرة لأسباب مختلفة نوعًا ما، وهي أنها نظرية ضبابية غامضة غير واضحة المعالم وغير علمية، وبالتالي يسهل الاعتماد عليها لتلفيق أي حجة أو أي سبب كتبرير لما تفعله بشعوبها.

امزج نظرية المؤامرة بعبارات حماسية على غرار: “سوريا قلعة الصمود والتصدّي” وضع رشّة من (المنعطفات التاريخية) و (اللحظات التاريخية) وشيئًا من (الممانعة)، وستصبح لديك وصفة لا بأس بها لتدجين شعب كامل يقبل بكل ظلم واقع عليه لأنه يمر في (منعطف) تاريخي ولأن المؤامرة كبيرة … أكبر منّا جميعًا. هذا يعطي البعض شعورًا وهميًا بانتصارات وهمية لم يحققها. لحسن الحظ تبين أن هذه الوصفة لم تعد تنطلي على الشعوب العربية، أو أنها انطلت لفترة لكنها الآن لم تعد صالحة على أية حال.

أعرف شخصًا من المؤمنين بشدة بنظرية المؤامرة والربيع العربي. بعد سقوط مبارك وأثناء الانتخابات الرئاسية في مصر ظهرت في الأيام السابقة للنتيجة تقارير تفيد بأن أحمد شفيق صاحب الحظ الأكبر في الفوز، فرقص صاحبي هذا طربًا لأن هذا أثبت له نظرية المؤامرة التي تقول بأن أمريكا تريد إعادة نظام مبارك إلى الحكم بشكل مختلف، وهذا دليل على المؤامرة. كل هذا جميل لكن فوز مرسي لم يمنع نفس الشخص من الرقص طربًا، لأن هذا أثبت له نظرية أخرى تقول بأن أمريكا تريد إيصال (الإسلاميين) إلى الحكم، لا أدري ما سبب نظريته هذه لكنه مؤمن بها بشدة ويعتقد بأن أمريكا أوصلت مرسي لهذا السبب. الأمر لم ينتهِ هنا، فعند عزل مرسي مؤخرًا عاد نفس الشخص لممارسة هوايته التي أصبحتم تعرفونها الآن، وهي الرقص طربًا لأن هذا أثبت نظرية أخرى له وهي أن أمريكا تريد الفلول!! إن لكل شيء تفسير بسيط لدى هذا الشخص ومن هم من أمثاله، التفسير يتمثل بأمريكا دائمًا. إن فرسان الهيكل هؤلاء لسفلة منحطين!

المؤامرة، نظرية ضبابية سهلة القولبة والعجن والتشكيل، لهذا تراها إجابة سهلة يمكن لصاحبها أن يفسر لك كل شيء في هذا العالم دون أن يضطر لتقديم أية أدلة علمية أو دراسات أو تفسيرات.

القادمون

كلما تحدّثت بمثل هذا الكلام أمام أحد المؤمنين بنظرية المؤامرة الغامضة هذه، أجابني: “ألم ترَ فيلم (القادمون) على يوتيوب؟ شاهده وستفهم كل شيء”. سمعت بهذه العبارة حوالي العشرة مرات، شاهد (القادمون) وستفهم كل شيء، شاهد (القادمون) فهو يشرح لك كيف يعمل النظام العالمي الجديد لتحقيق مصالح حفنة ضيقة من (المتآمرين) على حساب الشعوب.

بعد سنوات من عدم اكتراثي قررت أخيرًا أخذ فكرة عن أشهر عمل (وثائقي) يتحدث عن نظرية المؤامرة، عمل له شهرة جارفة هنا في الشرق الأوسط ولم يسمع به أحد في الخارج (ربما هذا جزء من المؤامرة؟).

شاهدت بعض الحلقات من (القادمون) في محاولة كي أكون منصفًا، دعنا نتغاضى عن المقاطع المسروقة من أفلام أخرى في هذا الفيلم، والموسيقى التصويرية المسروقة أيضًا مما أدى بيوتيوب إلى حذف الفيلم عدة مرات لانتهاكه حقوق الملكية الفكرية. هذا الحذف طبعًا صب في صالح الفيلم إذ اعتقد أصحاب نظرية المؤامرة بأن هذا جزء من المؤامرة نفسها. حسنًا دعنا نتغاضى عن فكرة أن من أنتج الفيلم هو هاوٍ حقيقي كتب أي كلام لا يمكن توثيقه ونجح في الضحك على عقول الكثيرين.

دعنا نتجاهل كل هذا ونرى الفكرة التي بُني حولها الفيلم. الفيلم مبني على فكرة الماسونية التي تريد تحضير العالم لظهور المسيح الدجال ضمن خطة تاريخية طويلة وبالغة التعقيد بدأت منذ آلاف السنوات وتستمر حتى الآن. الفيلم يمتلىء بعبارات مثل “إن هؤلاء أخذوا على عاتقهم تنفيذ خطة شيطانية للتحكم بعقول الناس”. لكن من هم؟ إنهم (هم) وهذا يكفي، أليس هذا مؤامرة بحد ذاتها؟!!

يعتمد الفيلم بشدة على مبدأ الرموز، والأهرام هو الرمز الرئيسي لـ (هؤلاء)، يرصد الفيلم ورود الشكل الأهرامي في كل مكان، بدءًا بأهرامات مصر ومرورًا بأي ناطحة سحاب تمتلك في قمتها شكلًا هرميًا وانتهاءًا برسوم الأهرامات في أفلام الكرتون الموجهة للأطفال. ويحاول الفيلم رصد الكثير من الأشكال المتواجدة بكثرة في الرسوم والزخارف وتفسيرها بتفسيرات (شيطانية). ويقول بأن الأهرامات والقبب هي أساليب معمارية تُستخدم لإسقاط الطاقة، حيث تقوم قبب الجوامع والكنائس بإسقاط الطاقة الإيجابية بينما تقوم الأشكال الهرمية بإسقاط الطاقة السلبية! لكن لسبب ما فإن قبّة البيت الأبيض تقوم بإسقاط الطاقة السلبية على عكس كل القبب الأخرى! الهدف طبعا أن تصبح طاقة الشر أقوى من طاقة الخير تمهيدًا لظهور المسيح الدجال.

وبذكر الفيلم معلومة خطيرة بالفعل ولا أدري كيف غابت عن أذهان الجميع، وهي أنه ومنذ تعدى برج دبي (برج خليفة) حاجز 2300 قدم (تم إنتاج الفيلم قبل الانتهاء من بناء البرج) أصبحت دبي في حالة دائمة من الضباب، دبي التي يعتبر مناخها صحراويًا -يتابع الفيلم- تحولت إلى مدينة ضباب وهذا ما لا يستطيع أي عالم أن يفسره بحسب الفيلم. تصوروا هذا؟! هذه مجرد نكتة واحدة من النكت الواردة في هذا الفيلم الذي يعتبره البعض مرجعًا مقدسًا لنظرية المؤامرة. مجرد كلام تافه لا معنى له.

أعرف أن البعض سيعترض على كل ما ورد في كلامي، وسيقفز  قائلًا: “لكن ألا ترى ما تفعله أمريكا”، “ألا تؤمن بقوة الصهيونية؟”، “كيف تستطيع أن تنفي كليًا نظرية المؤامرة؟”. حسنًا، أنا أعرف ما تفعله أمريكا، وأعرف ما تفعله الصهيونية جيدًا. لكنني أدعو إلى عدم تغييب العقل وأحارب انتشار نظرية (نحن ضُعفاء، هم أقوياء، قُضِي علينا!). لا يوجد نظرية مؤامرة بهذه الحبكة التي تروونها في نظرياتكم وحكاياتكم. توجد دول لديها مصالح، ونحن أيضًا يجب أن نكون دول لديها مصالح تحارب من أجل تحقيقها. إن كنت تريد اعتبارها (مؤامرة عالمية) ضد العرب أو المسلمين لا بأس اعتبرها كذلك، لكن لماذا لا نتحول نحن أنفسنا إلى كيانات فاعلة في هذه (المؤامرة) ونقوم بمؤامرة مضادة نحقق من خلالها ما نصبو إليه؟ سمّها ما شئت لكن -بالله عليك- دعنا نتخلص من عقدة الضعيف المسكين المغلوب على أمره. دعنا نتخلص من عقدة المهزوم الذي لا يفكر أساسًا بتحسين وضعه -بأي شكلٍ كان- لأن (المؤامرة) ستأكله، ولأن (أمريكا) لن تسمح له. تخيّل ولو لمرة واحدة بأنك تمتلك زمام المبادرة، هل هذا صعب؟

عند الحديث عن السياسات العالمية، يُسقط الجميع الشعوب العربية من حساباتهم، بمافيها الشعوب العربية نفسها التي تُسقط نفسها بنفسها من جميع الحسابات مُعتقدةً بأن المؤامرة (كبيرة)، لهذا لندع أنظمتنا تخطط وتُفكر عوضًا عنا حتى لو أرادت أن تنهبنا أو تدوسنا. لحسن الحظ توقفت الشعوب العربية عن إسقاط نفسها من المعادلة وبدأنا العودة إلى الطريق الصحيح …

طريق الربيع …

العربي.

 

13 رأي حول “عن المؤامرة الكونية … نتحدث”

  1. كلام جميل جدا وبمكانه… على الإنسان أخذ زمام المبادرة والتطلع للأمام مهما كانت الظروف.. و لنصنع نحن مؤامرة – عليهم –

    رد
  2. أحسنت أخي أنس .. أفكار نيرة تدل على صفاء ذهنك .. تطرقت إلى جوانب عديدة و أحطت بالموضوع .. ﻻ تتوقف عن الكتابة في هذه المواضيع إلى جانب المواضيع التكنولوجية ..

    رد
  3. أهنئك أنس،
    أول مقال يشفي الغليل عن هذا الموضوع، عشاق نظرية المؤامرة أصبحوا كثر حقاً، هل يحتاج الجميع حقاً لتفسير بسيط يريحون به رأسهم وينتهي الأمر؟!

    هذا قد يكون أفضل مقال قرأته منذ سنوات.. بصراحة 🙂

    رد
  4. حسناً عزيزي انس ، اريد هذه المرة ان اكون من ( هادمي اللذات ) واروي لك ما سيحدث في الحلقة الاخيرة من سلسلة ( القادمون ) ، لا لشئ ، فقط لتوفير الوقت وصداع الرأس من كثرة الهذيان في تلك الحلقات ، لتعلم ان المخلص من المؤامرة في الحلقة الاخيرة هو آخر الأئمة الشيعية وان ظهور المهدي ( الامام الثالث عشر ) هو نهاية المؤامرة ، وهذا الكلام يفسر المغزى الحقيقي من السلسة التافهة .

    رد
  5. بس لا تقولي داعش مؤامرة ، وفعلا سلسلة قادمون انتشرت قبل الثورة بفترة بشكل رهيب ومع اني شاهدت اكثر من حلقة منها بس مااقتنعت بها وما خرطت مشطي.

    رد

أضف تعليق