روسيا … طائرة من ورق

تتسم السياسة الروسية وعلى مر التاريخ بأنها (تُكرر نفسها)، وهنا تنطبق بالفعل مقولة أن التاريخ يُكرر نفسه، هذه المقولة صحيحة في حالة روسيا على الأقل. إذ لطالما سعت روسيا عبر التاريخ إلى منح نفسها صفحة (الدولة العُظمى) رغم أنها لا تمتلك الإمكانيات اللازمة لذلك (مقارنةً بالولايات المتحدة مثلًا)، ثم يأتي الوقت الذي تصطدم فيه بمشاكل اقتصادية غير متوقعة تؤدي بها إلى إعادة حساباتها والتراجع قليلًا، قبل المحاولة مرة أخرى.

بعد أن تضاعفت أسعار البترول ثلاثة أضعاف في العام 1973 عندما أعلن العرب الحظر النفطي على الدول الغربية، قام الاتحاد السوفيتي ببناء أنابيب رئيسية لتزويد أوروبا بالنفط مما أدخل للاتحاد السوفيتي أرباحًا كبيرة مستفيدًا من تغطية نقص انقطاع النفط العربي مما أدى إلى تحسن ظروف المعيشة في الاتحاد السوفيتي الذي أعلن عن “عصرٍ اشتراكي جديد”. استفاد الاتحاد السوفيتي من تحسّن اقتصاده وقام بعملية إعادة تسليح كبيرة لجيشه وبدأ حربًا في أفغانستان. لكن فجأةً، قامت السعودية بزيادة إنتاج النفط ثلاثة أضعاف لاستعادة حصتها المفقودة من السوق وانهارت نتيجةً لذلك أسعار النفط.

انهيار أسعار النفط أضر بشكلٍ كبير باقتصاد الاتحاد السوفيتي الذي اضطر لإيقاف ما أسماه بالعصر الاشتراكي الجديد. في الحقيقة كانت الضربة الاقتصادية كبيرة إلى درجة أن الاتحاد السوفيتي اضطر لاستجداء المساعدات الاقتصادية والقروض من الغرب كي يتمكن من استيراد الطعام، كما اضطر للانسحاب من أفغانستان ومن ثم الانسحاب من ألمانيا الشرقية، ولاحقًا انهار الاتحاد السوفيتي.

وصولًا إلى العام 1999 تحولت روسيا إلى دولة فاشلة اقتصاديًا، وتم استبدال بوتين بيلتسن، حيث قامت روسيا بمد المزيد من أنابيب النفط إلى أوروبا مُستفيدةً من ارتفاع أسعار النفط لمدة تسع سنوات، وبدأ مستوى المعيشة بالتحسن وقامت روسيا بعملية إعادة تسليح كبيرة، واستخدمت روسيا صادرات الغاز لتوسيع تأثيرها السياسي إلى أوروبا وتركيا.

نجح بوتن في تحسين الاقتصاد والحضور الروسي في عالم السياسة، وعند هذه النقطة أرسل قواته المسلّحة إلى أوكرانيا ثم إلى سوريا. هذا جاء تزامنًا مع قيام الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية برفع إنتاج النفط بشكلٍ كبير، فعاد الاقتصاد الروسي ينزف من جديد وبدأت روسيا باستهلاك احتياطاتها، وانهارت قيمة العملة وتباطأ الإنتاج والصناعات، وبدأت روسيا فعلًا بتخفيض ميزانيات الدفاع والتعليم والطبابة والتقاعد، في تكرارٍ مُطابق لما حدث أيام الاتحاد السوفيتي.

خلال الشهور الأخيرة قام بوتن بتخفيض الرواتب وفصل 10% من موظفي الدولة وأدت سياساته إلى تضخمٍ كبير. وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد بأمس الحاجة إلى تقليص الاعتماد على صادرات النفط والغاز قام بزيادة ضخ المادتين وحوّل روسيا إلى بلدٍ تعتمد عليهما كليًا، ثم جاءت العقوبات الغربية على روسيا التي أدت إلى إلغاء عقودٍ بالمليارات، تبعها خفض أسعار النفط الذي قادته الولايات المتحدة والسعودية.

بوتن الذي كان يطمح إلى جعل روسيا دولةً أقوى، جعل روسيا الآن عاجزةً عن إتمام بناء بعض أسلحتها من سفنٍ وطائرات وما شابه، بسبب العقوبات التي منعتها من استيراد الأجزاء اللازمة لبناء هذه الآليات، كما أوقفت روسيا الكثير من مشاريع التطوير العسكرية بسبب نقص التمويل، وقد قال وزير الدفاع الروسي بأن بلاده لن تبدأ ببناء أول حاملة طائرات لها قبل العام 2018 ولن تنتهي من بنائها قبل العام 2030، هذا يعني أن روسيا ستمتلك في العام 2030 (لو نجح المشروع) حاملة طائرات حديثة واحدة فقط (ولديها حاليا واحدة قديمة من الحقبة السوفيتية)، في الوقت الذي تمتلك فيه الولايات المتحدة حاليًا 10 حاملات للطائرات. هذه فقط إحدى المقارنات التي تُظهر كم أن روسيا بعيدة كل البعد اقتصاديًا وعسكريًا وحتى سياسيًا كي تكون (دولة عظمى) كما يطمح لها بوتن أن تكون. إن دولة يتأرجح اقتصادها كالذبابة بحسب قرارات السعودية لخفض أو زيادة إنتاج النفط، هي دولة تمتلك اقتصادًا مُزيفًا بكل المقاييس، وأضعف مما تبدو عليه بكثير.

حتى نظام الصواريخ S-400 التي تتفاخر روسيا به، سيكون استخدامه فعليًا مُكلفًا جدًا على روسيا، كما أن نظام التشويش الإلكتروني Aselsan Koral الذي ركبته تركيا على الحدود مع سوريا يؤدي إلى تشويشٍ كبير على نظام S-400 مما يجعله عديم الفائدة تقريبًا بالنسبة لروسيا، ويبقى وجوده على الأراضي السورية وجودًا رمزيًا على الأغلب.

في مرحلة من المراحل، قد تطول أو قد تقصر، ستضطر روسيا إلى استبدال بوتن، وستوكل المهمة لمن يأتي بعده بإصلاح الاقتصاد، وإصلاح العلاقات مع الغرب (ولن تستطيع روسيا إصلاح الاقتصاد دون إصلاح علاقاتها مع الغرب). وفي وقتٍ قد لا يكون بعيدًا ستتضاءل الاحتياطات الروسية إلى درجة ستجعلها مُضطرةً لسحب قواتها من سوريا وأوكرانيا، تمامًا كما انسحبت من أفغانستان في السابق تحت ظروفٍ مُطابقة. في الحقيقة ستكون روسيا مُضطرة لذلك لحماية نفسها من الداخل قبل كل شيء، حيث يقود أي انهيار اقتصادي في النهاية إلى موجات من الغضب (والشغب) الشعبي بسبب نقص الطعام والوظائف، وستحاول روسيا بشتى الوسائل منع هذا قبل أن يبدأ من خلال إعادة قواتها والتودد مجددًا إلى الغرب، تمامًا كما فعلت إيران.

لهذا، فإن الاتفاق الذي وقعته روسيا مع النظام السوري والذي يُعطي روسيا تواجدًا لمدة غير محدودة في سوريا، والذي رأى فيه البعض احتلالًا روسيًا طويل الأمد، لا أراه كذلك، لأن الوجود الروسي في سوريا لن يطول وذلك لأن روسيا لن تتحمله لأسباب اقتصادية واضحة.

التكنولوجيا العسكرية الروسية التي يتفاخر بها مؤيدو النظام السوري (وكأنها من صنعهم) هي في الواقع مُضحكة ولعبة أطفال مقارنةً بتكنولوجيا حلف الناتو العسكرية (ولهذا لن تجرؤ روسيا على الدخول في حرب مع تركيا – إحدى دول الناتو- لو أسقطت لها الأخيرة طائرة ثانية أو ثالثة، لأن حربًا مع تركيا تعني حربًا مع الناتو). لكن للأسف، فإن هذه الآلة العسكرية الروسية ما زالت أكثر من كافية لقتل الشعب السوري، وهو ما تفعله روسيا التي تقصف بشكلٍ يومي المناطق الحاضنة للمعارضة قاتلةً المدنيين بحجة قصف داعش، وستستمر روسيا بالقصف حتى تصل إلى عجزها الاقتصادي المحتوم، وحينها سيكون النظام قد استنفذ آخر حلفائه، بعد أن فشلت كل فرق المرتزقة التي استجلبها من إيران والعراق ولبنان فشلًا ذريعًا في القضاء على ثورة الشعب السوري.

3 رأي حول “روسيا … طائرة من ورق”

  1. لكن هل هناك من أمل في تشكيل قوة عربية أو إسلامية (مثل تركيا) في المستقبل بدلا من الاعتماد على الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين وما شابه ؟
    هل يمكن للعرب فعلها وسط هذه السيطرة الرأسمالية الغربية ؟

    رد
  2. تحية سيد أنس،

    أتفق تمامًا معك في كل نقطة في هذا المقال، المسألة مسألة وقت وعض على الأصابع، وقيل “وما النصر سوى صبر ساعة” روسيا بعز عزها “الاتحاد السوفييتي” وعظمتها وجبروتها لم تستطع تحمل احتلال أفغانستان فما رأيك بها الآن وقد تقلصت إلى روسيا فقط!

    رد

اترك رداً على خالدة حاجو إلغاء الرد