هل الصحافة المدفوعة هي الحل؟ تجربتي الرائعة مع الاشتراك في مجلة الإيكونومست

في زحمة شبكات التواصل الاجتماعي وفوضى الأخبار الكاذبة والمقالات الفارغة التي لا تهدف إلّا لجلب المزيد من النقرات. هل يجب أن نتجه حقًا إلى الصحافة المدفوعة للحصول على المواد المُحترمة التي تستحق القراءة؟

هل هناك من يدفع المال ليقرأ الأخبار في عصر الإنترنت؟ هذا أول سؤال قد يخطر على بال الكثيرين ممن يُشاهدون إعلانات الاشتراك في الصحف والمجلات المختلفة، أو تطلب منهم بعض المواقع الدفع للتمكّن من قراءة مقالة ما وصلوا إليها بشكلٍ أو بآخر.

نفس السؤال كان يخطر لي عند وصولي إلى موقع ذو محتوىً مدفوع. وحتى لو كنت أعرف بأن هذا الموقع أو ذاك يُقدّم محتوىً عالي النوعية إلا أني كنت أعتقد أنه وبشكلٍ من الأشكال يمكنني (التعويض) عبر قراءة مقالات مُشابهة مجانية تمتلئ بها شبكة الإنترنت.

شيئًا فشيء بدأت الأمور تُصبح أسوأ، وبدأ هدف معظم الصحف والمجلات الإلكترونية يتحوّل إلى جلب أكبر عدد من القرّاء بأي ثمن للحصول على دخل إعلاني أكبر. وظهرت أساليب جديدة مثل ما يُعرَف بالـ Clickbait وهي العناوين على غرار (فتاة قدّمت وجبة غدائها لمتسوّل. ما فعله لاحقًا سيجعلك تذرف الدموع!) أو (لن تُصدق ما هو المشهد الذي التقطته إحدى كاميرات المراقبة ليلًا).

حسنًا، كنا نعتقد في البداية أن هذا ينحصر بالصحافة الصفراء، المشكلة أنه بدأ يتسلل حقًا إلى صحف ومجلات عربية وعالمية محترمة حتى لو لم يكن بهذا الشكل الفج أحيانًا، لكن مقالاتٍ عن (7 فوائد للبصل) ما زالت تعترضنا في مواقع لطالما اعتبرناها مصادر رزينة تستحق المطالعة يوميًا، ناهيك عن مقالات من الواضح أنها لُفِّقَت على عجل فقط لأن رئيس التحرير يطلب من المحررين نشر أكبر عدد ممكن من المقالات يوميًا.

كل هذا ولم ندخل بعد في الحديث عن الأخبار الكاذبة Fake news والإشاعات وفوضى متابعة الأخبار عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي تنثر أمامك عشوائيًا مجموعة هائلة من الروابط التي لا تنتهي.

هذه الطريقة الفوضوية في متابعة الأخبار وقراءة المقالات لها تأثير سيء جدًا، حيث توهمك بأنك تقرأ الكثير وتعرف الكثير، في حين أنك قد تكتشف متأخرًا -أو لا تكتشف أبدًا، وهذا هو الأسوأ- بأنك تقرأ الكثير، لكنك لم تُضف إلا أقل القليل إلى فهمك للأحداث أو لمعلوماتك العامة.

أنا أيضًا كنت في هذه الدوامة دون أن أشعر، حتى اشتركت – بالصدفة – في مجلة الإيكونومست Economist، وهو ما أعتقد أنه من أفضل القرارات التي اتّخذتها في حياتي، بدون أية مبالغة.

الإيكونومست

اشتراكي بالإيكونومست (مجلة بريطانية تأسست في 1843) جاء عن طريق الصدفة كما قلت. كنت قد سمعت عن المجلة كثيرًا كونها من أشهر المجلات العالمية بالطبع لكن المرة الأولى التي قرأتها كانت عندما اشتريت حاسبًا لوحيًا من سامسونج يأتي مع عرض خاص يتيح قراءة النسخة الرقمية من المجلّة مجانًا لمدة ستة أشهر.

تتناول المجلة -التي تصدر أسبوعيًا- مواضيع متنوعة (وليست فقط اقتصادية كما يوحي اسمها)، وتتضمن في بدايتها ملخصًا مختصرًا لأبرز أحداث الأسبوع الماضي، ثم تحليلات لأبرز تلك الأحداث ضمن أقسام مخصصة لدول أو مناطق من العالم مثل (أوروبا، الولايات المتحدة، بريطانيا، آسيا، الشرق الأوسط وإفريقيا، الصين) حيث يتضمن كل قسم ثلاث إلى أربع مقالات مكتوبة بأسلوب ممتع ورشيق وغزير بالمعلومات. وتوجد أيضًا أقسام خاصة بالعلوم والتكنولوجيا، الثقافة والكتب، وغير ذلك.

إضافةً إلى هذا يتضمن كل عدد ملفًا خاصًا عن قضية معينة (علمية، تقنية، اجتماعية، سياسية، بيئية … الخ). الملف هو عبارة عن مقالة مختصرة تتبعها مقالة طويلة حول الموضوع.

بعد قراءتي لأول بضعة أعداد من المجلة لاحظت طبعًا وبشكلٍ فوري الجودة العالية التي تتمتع بها كل مقالة مكتوبة في المجلة. يمكنك أن تقول بأن كل مقالة مهما كانت صغيرة تكاد تكون بحثًا كاملًا مرفقًا بالدراسات والأرقام والمعلومات التاريخية. أعجبتني أيضًا المقالات الخاصة بعالم التكنولوجيا المكتوبة بشكل احترافي جدًا لن تجده بأي موقع (مجاني) من المواقع المتخصصة بهذا المجال (والتي أتابع أبرزها بشكل يومي، لا مجال للمقارنة). كما أبهرني كيف أصبحتُ وبفضل الأسلوب الرائع للمجلة أقرأ بعض المواضيع الجديدة علي بشغفٍ شديد، رغم أني لم أكن لأتخيل أن أتابعها في الأحوال العادية، مثل المقالات المتعلقة بالتغيّر المناخي أو تفاصيل ما يحدث في بعض الدول الإفريقية، على سبيل المثال لا الحصر.

حسنًا، لنقل أني استمتعت بالمجلة خلال الأسابيع الأولى، لكن هل هذا كان كافيًا كي أتحوّل إلى زبون يدفع المال لمتابعة القراءة بعد انتهاء الفترة المجانية؟ في الحقيقة أنا نفسي لم أتوقع ذلك، لكن بعد أول شهرين أو ثلاثة اكتشفت أن فهمي للعالم سياسيًا وعلميًا واجتماعيًا قد بدأ يتحسّن بشكل غريب، وبأن الزوايا التي أنظر من خلالها إلى أي موضوع قد بدأت تُصقَل وتتغير. بدأت أعرف ما هي أبعاد الـ Brexit بالضبط ولماذا هو حدث سيء جدًا في تاريخ العصر الحديث، بدأت أفهم بالضبط ما هي الشعبوية Populism وعرفت ما هي الحمائية Protectionism، وبدأت أربط ما بين هذه المصطلحات ومواضيع عالمية أخرى مثل صعود اليمين في العالم الغربي وما الذي يعنيه.

شعار المجلة هو (لقد قرأتَ الخبر، الآن تعرّف على القصة). وبالفعل أدركت أن متابعة الأخبار على التلفاز أو أية وسائل أخرى لا تعني بأن المُتابع يفهم فعلًا ما الذي يحدث.

ما شدني بالمجلة هو أنها تطرح كل موضوع من المواضيع مع خلفية تاريخية مُناسبة كالحديث عن تسلسل الأحداث وكيف وصلنا إلى هنا، كما تربطه مع أحداث أخرى متعلقة، وتدعمه بدراسات أو إحصائيات. حتى لو كان المقال عن خبر بسيط قد يعتقد القارئ أنه لا يستحق كل هذا الجهد، كتنحّي رئيس دولة إفريقية عن السلطة، أو فضيحة فساد في كوريا. النتيجة هي مقالة غنية بالمعلومات تعطيك فهمًا أفضل بكثير لأبعاد أي حدث أو موضوع.

بعد انتهاء الستة أشهر الأولى من الفترة التجريبية كنت قد أدمنت المجلة بالفعل، وتوقفت عن قراءة أية مقالات عبر الإنترنت فيما عدا بعض عناوين الأخبار السريعة. لحسن الحظ حصلت على ستة أشهر مجانية أخرى كونها تصادفت مع شرائي جهازًا آخر من سامسونج (هاتف هذه المرة) وكان نفس العرض موجودًا.

بعد انتهاء الاشتراك المجاني الثاني حاولتُ إقناع نفسي بأني سأكون كثير المشاغل هذه الفترة وأني لو دفعت قيمة الاشتراك (275 يورو في السنة) فقد لا أجد الوقت الكافي للقراءة. لكن بعد فترة قصيرة من الانقطاع وجدتُ نفسي قد انجرفتُ مرة أخرى إلى الضياع في سيل آلاف روابط الويب التي لا يُسمن معظمها ولا يُغني من جوع. ودون تفكير وجدتُ أنه وأمام القيمة الثقافية التي تقدمها هذه المجلة، من المُخجل التفكير بالقيمة المالية.

يعجبني بالمجلة أنها لا تدّعي الحياد ولا تتظاهر به، وتُسمّي الأشياء بمُسمياتها. فهي – على سبيل المثال- يمكن أن تصف ديكتاتورًا بوصف (الدكتاتور مجرم الحرب الذي تلطخت أيديه بالدماء وقتل الآلاف)، في حين أن صحفًا عالمية شهيرة أخرى تكتفي بوصف نفس الدكتاتور بـ (الرئيس المُتَّهم بارتكاب جرائم حرب).

كما لا تُخفي المجلة نفَسَها الليبرالي من حيث دعم الحرّيات الفردية والإشادة بالانفتاح الاقتصادي والاتفاقيات التجارية العالمية، وذم التوجهات اليمينية ودعوات غلق الاقتصاد. وهو توجّه قريب جدًا منّي.

عرفتُ فيما بعد بأن جميع رؤساء الولايات المتحدة منذ (كينيدي)، والكثير من كبار المسؤولين في مختلف دول العالم (مثل أنجيلا ميركل)، وأشهر أغنياء العالم (مثل بيل غيتس)، والكثير من الباحثين والعلماء هم من مُشتركي المجلة ومتابعيها.

هل الصحافة المدفوعة هي الحل؟

بعد فترة انتكاسة تعرضت لها الصحافة التقليدية منذ انتشار الويب على نطاقٍ واسع، تُشير المعلومات الأخيرة بأن هذا بدأ يتغير مرة أخرى، وبأن صحفًا مثل Newyork Times و Washington Post تمكنت في العامين الأخيرين من رفع عدد مشتركيها، وهو ما يمكن اعتباره مؤشرًا على “اكتشاف” الكثير من القراء بأنهم لو أرادوا الحصول على محتوى “حقيقي”، عليهم الدفع.

في النهاية أريد القول بأني ضربتُ الإيكونومست كمثال لأنها المجلة العالمية الوحيدة التي حصل أن اشتركت بها ودأبتُ على قراءة كل ما نشرته منذ اشتراكي. هدفي من المقال ليس الترويج لهذه المجلة تحديدًا (ولو أن هذا هو ما قمتُ به عمليًا!)، لكن هدفي الأساسي هو الحديث عن الفارق الهائل بين الصحافة الراقية والصحافة (المجانية) التي تعتمد على نقرات الإعلانات وعدد الزيارات لتحقيق الأرباح. وهناك بالتأكيد صحفًا ومجلات عديدة مُحترمة تستحق تجربتها والاشتراك بها.

3 رأي حول “هل الصحافة المدفوعة هي الحل؟ تجربتي الرائعة مع الاشتراك في مجلة الإيكونومست”

  1. الايكونومست مجلة متحيزة لمصالح الغربية بالدرجة الأولى، كنت أستمع إلى مقالاتها المقروءة أسبوعيا ولكن بدت تتضح الصورة شيئا فشيئا كيف أنها موجهة لخدمة مصالح خاصة في الأخبار.

    رد
  2. هُناك وجود للمحتوى القيّم في العالم والعالم العربيّ بالتأكيد، ويوجد إمكانيّات لعمل محتوىً مدفوع عال الجودة، لكن أغلب العرب لا يؤمنون بدفع المال للتعلّم واكتساب بعضٍ من الثّقافة.

    رد

اترك رداً على وليد س. إلغاء الرد