لا تقرأ!!

من المعروف أن عالمنا العربي يُعاني من مشكلة كبيرة تتمثل بانخفاض نسبة القراءة ومعدلّات النشر مقارنةً بالعالم الغربي لأسباب عديدة ليست هي موضوعنا. الأسوأ من ذلك هو أنه ورغم شبه انعدام عادات القراءة لدى غالبية الناس، يوجد هناك دائمًا من يزيد الأمر سوءًا عندما يقول للآخرين: “لا تقرأوا” هذا الكتاب أو ذاك!

الفئة الأبرز التي سمعتُ منها الأمر: “لا تقرأ” هي – للأسف – نفس الفئة التي لا تفتأ تُردد على مسامعنا وتُذكرنا دائمًا بأن “إقرأ” هي أول كلمة في الإسلام: فئة رجال الدين، أو من يُطلَق عليهم هذا الاسم.

أعتقد أن المرة الأولى التي سمعتُ فيها هذه الكلمة كانت في أحد المجالس حيث سأل الحاضرون داعية دمشقي شهير عن رأيه بكتاب جديد -حينها- وهو (المرأة بين الشريعة والحياة) للدكتور (محمد حبش)، أستاذ الدراسات الإسلامية، وهو كتاب أثار الكثير من الجدل في الأوساط الدينية لدى صدوره كونه يُناقش أفكارًا مثل مساواة المرأة للرجل، واعتبار الحجاب شيئًا تقرره المرأة بكامل حريتها لو شاءت، وغير ذلك من الأفكار المشابهة والتي تم طرحها بشكل يستند على نفس الكتب والمصادرة الشرعية التي تقوم عليها المدرسة الدينية التقليدية في دمشق.

لدى سؤال الداعية عن الكتاب في ذلك المجلس الذي كنتُ موجودًا فيه، كان جوابه للحضور واضحًا: “لا تقرأوا الكتاب فهو يُثير الفتنة”. دون أن يُحاول حتى الرد بشكل منهجي على شيء مما ورد فيه.

بعد ذلك سمعتُ كلمة “لا تقرأ” من الكثير ممن يوصفون بالدعاة أو رجال الدين، حتى لو كان ذلك حول كتب خرجت من نفس مدرستهم الدينية ومن أشخاص (منهم وفيهم) كما في حالة الدكتور محمد حبش. ومن الأشياء التي قيل لنا بألّا نقرأها كانت: الشعر الصوفي، وقد سمعت في أكثر من مناسبة من يطلب منّا (نحنُ الناس الجهلة العاديين) أن نتوخى الحذر لدى قراءة الشعر الصوفي، وبين من يمنعنا من ذلك تمامًا.

عندما كنتُ أصغر سنًّا لطالما تساءلت: هل يُعقَل أن قراءة كتاب، حتى لو كان دينيًا صرفًا، يُمكن أن تُخلَّ بتفكيري إلى هذه الدرجة وتُشعِل الفتنة بداخلي وتحوّلني إلى مُلحد أو مُنحرف أو شيئًا من هذا القبيل؟ هل يمكنني فعلًا اعتبار رجل الدين – أو كائنًا من كان – وصيًا على عقلي؟

لكن عبارة “لا تقرأ” التي نسمعها مرارًا وتكرارًا بشكلٍ شخصي أو على شاشة التلفاز لا تقتصر فقط على رجال الدين، حيث سمعنا نفس الأمر من مُعلّمي المدارس والأهل والأقارب وحتى الأصدقاء.

لو فكّرتَ بموضوع الرقابة التي يفرضها المُجتمع لوجدتَ أنها مشكلة مضاعفة بالنسبة لنا نحن العرب الذين نعيش أصلًا في دول تمنع الكتب وتفرض الرقابة عليها. أي أننا (نحن الجهلة المساكين) نعيش ضمن إطار مُضاعَف من الرقابة، فحتى ما تسمح به الدولة هناك من قد يمنعك عنه.

أما دولة ديكتاتورية أخرى مثل إيران فقد نحت نحوًا خطيرًا قبل أيام قليلة عندما منعت تعليم اللغة الإنكليزية في المدارس لأنها اللغة التي يتسلل من خلالها (أعداء الأمة) إلى الشباب. بغض النظر عن التبرير المُضحِك فإن إيران وبمثل هذه الخطوة تأمل بأنها تضع حجر الأساس لتجهيل أجيال كاملة قادمة سيفوتها الكثير من العلم والمعرفة، فقط كي لا يتمكن الناس من قراءة بضعة مقالات تنتقد دولة الولي الفقيه. هذا نوع متطرف جدًا من سياسة (لا تقرأ) وسيكون أمرًا بالغ الخطورة لو قلّدته ديكتاتوريات عربية أخرى.

رسالتي من هذه التدوينة موجّهة لكل من يعتقد أنه – لسببٍ أو لآخر – يتوجب عليه أن يُذعِن لأمر (لا تقرأ) الذي يُمليه عليهم الأكبر سنًا أو مكانةً. رسالتي موجهة خصيصًا لمن هم في مطلع الشباب. لو قال لك أحدهم لا تقرأ هذا الكتاب، أو لا تتابع أفكار هذا الشخص أو ذاك على الإنترنت، فإن أوّل ما يجب أن تفعله هو أن تُسارع إلى قراءة ما تم منعه عنك. من يطلب منك عدم القراءة فهو يفترض سلفًا بأنك ذو عقل قاصر عن التفكير السليم والمُحاكمة العقلية الصحيحة.

قد يكون الكتاب الذي تم منعه عنك لا يستحق القراءة فعلًا، قد يكون مليئًا بالأخطاء حقًا، قد يكون المُفكّر الذي طلب منك والدك عدم متابعة منشوراته على فيسبوك مُدلِّسًا كبيرًا، لكن كيف ستعرف الحقيقة لو لم تقرأ بنفسك؟ ثم تُقارن مع مصادر أخرى؟ ثم تقرأ المزيد؟ لماذا تُغيّب عقلك تمامًا وتترك الآخرين يقررون عنك؟

لو كان هناك ما يُمكن أن يُنقذ ما يُعرف بالأمة العربية من ويلاتها خلال المائة أو المائتي عام القادمَين، فهي أن نقرأ … أن نقرأ كل شيء.

إقرأ.

5 رأي حول “لا تقرأ!!”

  1. التنبيهات: Gastbeitrag: Bitte Lesen! |
  2. التنبيهات: Gastbeitrag: Nicht Lesen! |
  3. القراءة في كل شيء امر جحميل، واجمل منه اي يبني القارء العربي تفكيرا نقديا يستطيع ان يعلم الصيحي والمفيد من الخاطئ والضار.

    رد
  4. نعم هناك كتب سأمنعها عن أولادي، للأسباب التالية: 1- كتب تافهة تضيع الوقت 2-كتب مملوءة بالمغالطات المنطقية 3-كتب هدفها إفساد المجتمع بدعوى حرية التعبير التي تمنع مواضيع و تشجع أخرى حسب منفعتها و أهواءها.

    رد

أضف تعليق