في الوقت الذي تضاءلت فيه الحروب التقليدية والمباشرة بين الدول خلال السبعين عامًا الماضية إلى حد أنها أصبحت نادرة أو عديمة الوجود، نلاحظ الارتفاع الكبير وغير المسبوق في عدد الحروب الأهلية حول العالم. ورغم أن النظام العالمي الجديد ما بعد الحرب العالمية الثانية نجح في خلق فترة نادرة من السلام والتطوّر في تاريخ البشرية، هناك في المقابل دول بقيت بعيدة لسببٍ أو لآخر عن ركب التقدّم، منها دول قوية نسبيًا وذات نفوذ (كروسيا والصين) لكنها في ذات الوقت لا قِبَل لها بمواجهة النفوذ الغربي بشكلٍ مُباشر، ما دعاها إلى اتخاذ سياسات من شأنها زعزعة الاستقرار العالمي كمحاولة يائسة لفرض الذات، وهناك دول أصغر وأضعف من ذلك بكثير لكن ما زالت لها طموحات معينة ونفوذ في مناطقها، مثل إيران.
ورغم أن البعض قد يعتقد بأن ما تمارسه هذه الدول من “بلطجة” سياسية هي عبارة عن تصرفات عشوائية غير مدروسة، أو مجرد “طموحات استعمارية” إلا أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، وهو ما أريد إيضاحه في هذه المقالة للتعرف على سياسات تلك الدول وطريقة عملها، ما قد يساعدنا على فهم أفضل للفوضى التي تعم منطقتنا العربية والكثير من مناطق العالم الأخرى.
الدول المارقة
قد يكون المصطلح الادق لوصف الدول التي تساهم في زعزعة الاستقرار العالمي هو الدول المارقة Rogue States، وهو ما سنشرح معناه حالًا.
تم استخدام مصطلح Rogue States للمرة الأولى من قِبَل الرئيس الأمريكي “ريغان” في العام 1985 لوصف الدول المعادية للولايات المتحدة، وقد شرعت الولايات المتحدة بحكوماتها المتعاقبة على استخدام نفس المصطلح لوصف أعداء الدولة في كل مرحلة من المراحل. لكن لاحقًا خرج المصطلح من معناه الضيق الذي يعني (أعداء الولايات المتحدة)، وأصبح مُستخدمًا في الصحافة والإعلام بشكلٍ عام للإشارة إلى الدول التي تهدف إلى زعزعة السلام العالمي مثل كوريا الشمالية أو روسيا.
المنطقة الرمادية
بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، رفضت دولتان كبيرتان هما روسيا والصين القبول بالهيمنة التي تفرضها الولايات المتحدة على العالم، وأصبح تركيزهما منصبًا على الدفاع عما تعتقدان أنها مصالحها الشرعية حيث دأبت الدولتان على تحسين قدراتها العسكرية ومد نفوذهما من خلال قيام روسيا بزعزعة استقرار أوكرانيا وفرض ما يشبه احتلال عسكري على سوريا، وقيام الصين ببناء العديد من الجزر الاصطناعية في المحيط واستخدامها كقواعد عسكرية لفرض قوتها على جيرانها الآسيويين وتقييد حركة الأسطول الأمريكي في المنطقة، في حين لجأت دولة مثل إيران إلى فرض نفوذ قوي على كل من العراق، لبنان، وسوريا.
لكن ماذا تفعل دولة ذات قوة متضائلة اقتصاديًا وديموغرافيًا مثل روسيا مثلًا لمجابهة دولة مثل الولايات المتحدة دون خوض حرب عسكرية تدرك الأولى أنها ستسخرها حتمًا؟ كيف تتمكن دولة تتضاءل من حيث القوة أمام الولايات المتحدة وحلفائها من تحقيق أهدافها بدون حرب؟ الحل هو ما يُعرف بالمنطقة الرمادية Grey Zone.
لنأخذ روسيا مثالًا: لمعرفتها أنها لا تستطيع محاربة الولايات المتحدة عسكريًا، فقد أصبح هدفها خلق منطقة رمادية، وهي منطقة نفوذ يتم فرضها خارج حدودها تتيح لها خلق مزيج من التحالفات، الفوضى، والولاءات بشكل يُصعّب على الولايات المتحدة وحلف الناتو اتخاذ قرار التدخل العسكري أو السياسي في هذه الدول ما يُشكّل حاجزًا يُجبِر الغرب عن الابتعاد قدر الإمكان عن روسيا ومصالحها.
المنطقة الرمادية، أو ما تُعرف بمصطلحات العلوم العسكرية بـ “منع الوصول/منطقة الحرمان” – anti-access/area denial أو اختصارًا: A2/AD، تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية أو استعمارية لدول مثل روسيا والصين وإيران دون الحاجة لدخول حرب مفتوحة مع الولايات المتحدة أو حلفائها. هذا النوع من “الحروب” الحديثة يُعرف اصطلاحًا بالحرب الهجينة، وهي الحرب التي تخلط ما بين العسكرة، الاقتصاد، الدبلوماسية، التجسس، والأساليب الإجرامية بهدف تحقيق المكاسب السياسية.
يقول Mark Galeotti الخبير في معهد العلاقات الدولية أن من أبرز مبادئ سياسة “المنطقة الرمادية” هي خلق جو من الغموض يجعل العدو عاجزًا عن الرد. كما يقول Hal Brands من معهد أبحاث السياسة الخارجية بأن تكتيكات المنطقة الرمادية تتميز بكونها مصحوبة بالتضليل والخداع، كما يتم تنفيذها غالبًا بطريقة تجعل من الصعب جدًا توجيه إصبع الاتهام إلى جهة مُنفِّذة واحدة.
لتحقيق هذه الأهداف يتم استخدام مزيج من التخريب والدعاية الإعلامية والابتزاز الاقتصادي والغدر. إضافةً إلى الحرب الإلكترونية ورعاية القوى العاملة بالوكالة إضافة إلى القوة العسكرية.
لو نظرنا إلى إيران لوجدنا أنها تُطبق التعريف النموذجي للمنطقة الرمادية حيث تستخدم كل ما تم ذكره من أساليب لتحقيق غرضها. بدءًا بتضليل وخداع شعبها والشعوب المجاورة برفع شعارات لا تعنيها ولا تُنفذها مثل (الموت لإسرائيل) وإطلاق أسماء مثل (فيلق القدس) على فصيل عسكري لم يذهب للقدس يومًا ولا يخطط لذلك. مرورًا بخلق أذرع لها في كل من العراق عبر سياسيين وفصائل مسلحة، ولبنان من خلال حزب الله، وسوريا من خلال النظام السوري. وعند تنفيذ عملية كبرى ما، مثل اغتيال رفيق الحريري يتم ذلك بطريقة مدروسة تجعل من الصعب تحديد المنفذ، هل هي إيران مُباشرةً؟ حزب الله؟ النظام السوري؟ سيجد المُجتمع الدولي خيوطًا توصل إلى جميع هؤلاء لكنها في ذات الوقت لا توصل إلى دليل صلب حول جهة واحدة تتيح اتخاذ إجراء ملموس ضدها.
تستخدم الدول المارقة البروبوغاندا الإعلامية بشكل مُخطط له ومدروس جدًا، حيث هناك دائمًا خطاب شعبوي وعدو غامض وقضية تتمثل دائمًا بالوقوف في وجه (الإمبريالية) والمؤامرات التي تُحاك ضد الوطن، ويتم ترديد هذه الشعارات بشكل يومي ودائم على شاشات التلفزة والصحف الحكومية لدرجة أن غالبية الشعب قد تصدقه أو تصدق شيئًا منه على الأقل.
أذكر أنه ومع انطلاق الثورة السورية، وحينما لم يكن الأمر يتعدَّ وقتها أكثر من مظاهرتين أو ثلاثة من الحجم الصغير للمطالبة بالإصلاح (وليس إسقاط النظام)، نشر النظام السوري حملة إعلانات طُرُقية كبيرة منها إعلان كبير الحجم يقول “لا للطائفية”. يهدف الإعلان إلى وضع فكرة في العقل الباطن للمواطن العادي بأن هدف الثورة هو طائفي وبالتالي إفقادها شرعيتها منذ الأيام الأولى. هذا جزء من البروبوغاندا الإعلامية المدروسة بعناية. من تحدّث عن الطائفية؟ لا أحد في الحقيقة وقتها سوى النظام نفسه، من خلال هذا الإعلان.
قد يعتقد الكثيرون بأن أنظمة مثل النظامين الإيراني والسوري هي أنظمة غبية (وهي كذلك بالكثير من المقاييس)، لكنها ليست غبية عندما يتعلق الأمر بالدعاية الإعلامية.
وفي الوقت الذي وظفت فيه إيران الدول المجاورة لتحقيق مصالحها، قامت روسيا بإنشاء منطقتها الرمادية لإيصال رسالة بأنها قادرة على زعزعة الاستقرار العالمي في أي وقت سواء في أوروبا (جورجيا وأوكرانيا) أو الشرق الأوسط.
على سبيل المثال فإن ما فعلته روسيا بأوكرانيا لا يهدف إلى ربح أي حرب بقدر ما يهدف إلى تخريب محاولة أوكرانيا الخروج من المدار الروسي نحو العالم الغربي، وهو ما يتضمن أيضًا توجيه رسالة تحذيرية إلى دول أخرى مثل روسيا البيضاء من محاولة القيام بأي شيء مشابه.
لهذا السبب أيضًا تلجأ روسيا إلى دعم جميع الحكومات اليمينية والشعبوية والديكتاتوريات أينما وُجِدَت في العالم بشتى الوسائل، منها وسائل التواصل الاجتماعي حيث تقوم بإرسال مئات الملايين من المنشورات سنويًا التي تطعن في القيم الغربية وتهدف إلى تقوية المشاعر القومية لدى الدول بشكل تأمل روسيا أنه سيعزز الانقسام بين شعوب الدول المتحالفة.
كيف نواجه الدول المارقة؟
للأسف، تُمثل الدول المارقة حالة يصعب التعامل معها. طالما وُجِدَت الديكتاتوريات ووُجِدَ الفقر والجهل، ستوجد الدول المارقة التي تستغل كل ذلك. لهذا السبب لم يُسمَح للشعوب الثائرة بإكمال ثوراتها ضد الديكتاتورية لأن المزيد من الدول الديموقراطية يعني مواطئ قدم أقل تستطيع الدول المارقة التواجد بها. الأمل الوحيد هو في تحوّلات ديموقراطية تجري في الدول المارقة نفسها، وكذلك في الدول الأصغر التي تستخدمها الدول المارقة كجزء من مناطقها الرمادية.
هذا بالطبع طريق طويل وسيستغرق وقتًا وتشكّلًا للمزيد من الوعي لدى الشعوب. أعتقد أننا نتجه إلى هناك ببطئ. قد لا يتحقق هذا خلال حياتنا، لكننا نتّجه إلى هناك حتمًا، أو هذا ما نأمله على الأقل.
* تم استقاء بعض المعلومات الواردة في هذا المقال من الملف الخاص الذي نشرته مجلة الإيكونومست في عددها الصادر بتاريخ 27 كانون الثاني بعنوان “الحرب القادمة”.