قبل أكثر من 15 عامًا، وكنت حينها لا أزال طالبًا في المدرسة الثانوية بحسب ما أذكر، عرضت قناة الجزيرة مقابلةً مع مُعارضٍ سوري وسجينٍ سابق في سجون حافظ الأسد. في تلك المُقابلة أجهش مُقدّم البرنامج بالبكاء عندما أخذ المُعارض يشرح له أساليب التعذيب المُستخدمة في سجن تدمر الرهيب. لم يحتمل مُقدّم البرنامج ما سمعه من أهوال فبكى على الشاشة وأصبح حديث الشارع السّوري في اليوم التالي لعرض البرنامج.
في اليوم التالي للمقابلة سألتُ صديقًا لي إن كان قد شاهد البرنامج وسمع الأهوال التي تحدّث بها ذلك المعارض، فما كان من صديقي إلّا وانهال بالسُباب والشتائم، ليس على حافظ الأسد، وليس على سجن تدمر، وليس على المُعارض، بل -وهذا آخر ما يُمكن أن تتوقعه- على مُقدّم البرنامج! لأن صديقي اعتقد بأن المُقدّم قام بحركة تمثيلية هدفها تضخيم ما قاله المُعارض بهدف “الإساءة إلى سوريا”! دعني أُفاجئك أكثر: هذا الصديق نفسه، يعرف أهوال سجن تدمر، ويعرف أنها موجودة، ويعرف إجرام النظام ولا يؤيده! لهذا أقول دائمًا بأن الرمادي حالة نفسية مُعقدة جدًا تستحق دراستها من قِبَل الخُبراء بالفعل.
حينها وكان هذا قبل الثورة بسنواتٍ طويلة، وقبل أن تطفو على السّطح ما عُرِفَت بالرّمادية، استوقفني هذا الموقف كثيرًا، فصديقي هذا أظهر عدة مرات سابقًا سخريته العلنية من النظام عندما كان يتم إخراجنا من المدارس عنوةً للمشاركة في احتفاليات (تجديد البيعة) للقائد (الخالد). كما أنه من عائلة عادية دمشقية متوسّطة، تُشبه عائلتنا، لم تُعرَف يومًا أنها كانت مؤيدة للنظام، ولا يوجد من أفرادها من يعمل مع النظام، ولم يكن يوجد من سبب لهذا الصديق للتظاهر أمامي بأنه مؤيد للنظام لأنه يعرفني ويعرف مواقفي جيدًا. وأجزم أنك لو دققت في تاريخ عائلته ستجد من أقربائه من اعتُقِل وسُجِنَ في تدمر.
نفس الشخص التزم صمتًا تامًا بمُجرد اندلاع الثورة، قد يُلمح لك في حديثٍ خاص بأنه ضد النظام، ويرى بأن الثورة كانت قادمة لا محالة، بل وأنها مُحقة برأيه، لكنه لن يقول أبدًا أنه مع الثورة. ولن تفهم أبدًا لماذا … أو ربما ستحاول أن تفهم؟ هذا ما حاولت فهمه خلال السنوات الماضية، وحتى الآن.
قد تستغرب كلامي، لكن لا تُقلقني كثيرًا فكرة التعايش مع مؤيدي النظام بعد رحيله وبعد بناء البلد من جديد. لعدة أسباب، فالمؤيّد العادي سيلتزم الصمت ويكف عن مضايقتك، مدفوعًا بالحرج الشديد الذي سيشعر به بعد خروج كل هذه الملفات السّرّية التي تُظهر ما فعله النظام (الذي أيّده) خلال كل هذه السنوات، وليست قضية (ميشال سماحة) إلّا جزءًا يسيرًا جدًا مما تم فضحه بالأدلة. ما سيتم فضحه لاحقًا سيكون مهولًا وكفيلًا بإسكات أي مؤيّد (سلمي) للنظام إلى الأبد.
أمّا المؤّيد الشبّيح (المُقاتل في صف النظام)، فهو إمّا سيهرب فارًّا من البلاد (إن بقي حيًا حتى تلك اللحظة) أو سيُقتل، أو سيُحاكم، أو سيختبئ ويختفي عن الأنظار.
أخيرًا، لدينا المؤيد المُستفيد من النظام، أي رجل الأعمال الذي لم يؤيّد النظام إلّا بسبب المصالح المُشتركة التي سمحت لذلك المؤيد بمزاولة أعمال درّت عليه الملايين. هذا النوع من المؤيدين إما سيخرج من البلاد كي يبدأ أعمالًا جديدة في بلدانٍ أُخرى (معظمهم خرج بالفعل ولن يعود)، أو سينجح في الالتفاف على سقوط النظام وإقناع الناس بأنه كان ضد النظام منذ اليوم الأول، وسيبقى في البلاد ويستغل اقتصادها الخام الذي يحتاج إلى آلاف الشركات والمشاريع كي تُحرّكه. لهذا أيضًا سيصمت هذا الشخص ولن نسمع له صوتًا بعدها.
أمّا الرمادي فهنا تكمن المشكلة. أعتقد أن العيش أو التعايش معه مُستقبلًا لن يكون سهلًا. لأنك تتحدث عن شخصٍ يخشى التغيير بطبعه، ويخاف الإقدام على أي جديد. لهذا السبب بالذات لم أعرف منذ بداية الثورة حتى الآن رماديًا بدأ عمله أو مشروعه التجاري الخاص، على عكس الآلاف من أبناء الثورة من روّاد الأعمال الذي أسسوا شركات وأعمال متوسطة أو صغيرة في الخارج.
يرى الرّمادي بأن هدف الحياة هو أن يأكل ويشرب ويتزوج ويتكاثر ويعمل لدى الآخرين وتحت سلطتهم (موظفًا في شركة)، ثم في النهاية يموت. وهو يعتقد أنه حينها سيموت سعيدًا مُتمًّا كافة واجباته الدينية والدنيوية.
هذه النوعية من الناس هي آخر ما نحتاجه لإعادة بناء البلاد، لدى إعادة إعمار سوريا فنحن (لو سارت الأمور كما ينبغي) سنتحدث حينها عن اقتصاد حر ومفتوح، عن فكر مُتقدم ومُنفتح، عن أداء غير تقليدي، وعن عمل محموم لتحقيق الأفضل. لكن الرّمادي (وليس المؤيّد السابق) سيكون هو من يضع العصي بالعجلات، لأن من إحدى أهم سمات الرمادي هي اعتقاده بأنه يفهم في كل شيء، المُشكلة أن اعتقاده هذا يضعه في موضع المُعترِض على أي شيء (عدا النظام السابق بالطبع لخشيته منه).
هذا الرمادي لن يفتأ -بعد زوال النظام- يُذكرك بـ (أيام زمان) مع تنهيدة عميقة، ولن يفوّت فرصةً يُذكرك فيها أنه (كان على حق) عندما اتخذ موقفًا مُحايدًا من الثورة. “النظام قتل الآلاف؟، لقد قُلنا لكم بأنه سيفعل” .. “الفوضى عاثت في البلاد؟ لقد قلنا لكم بأن هذا سيحدث” … الخ.
ستُصبح هذه هي الأحاديث المُفضلة للرمادي، من نوع “لقد كنتُ أعرف” و “لقد قلت لكم”، وصدقني لن يهتز له جفن، وسيشعر برضىً شديد عن نفسه وعن عبقريته الأخّاذة وعن تنبّؤه الدقيق بالمُستقبل … إنه عبقري كما تعلمون!
هذا هو الرمادي الذي سنعيش معه، خبير الدُنيا والعالم ببواطن الأمور، كاشف المؤامرات وعرّاف المُستقبل، خبير الاقتصاد والسياسة والتاريخ والجغرافيا، ملك الملوك ورب أرباب الفهم!
هذا هو الرمادي الذي سنعيش معه، وعلينا أن نستعد لذلك جيدًا.
مابتزعل أنس ؟ هالصنف في منو بين الشوام اكتر من اي مكان تاني مدري ليش.
ليش لأزعل؟ كلامك صح 🙂
تحية سيد أنس،
بالفعل، الرمادي يقهرني أكثر من المُؤيد، أَحْذَرُ من المُؤيِّد مَرَة ومن الرَّماديَ أَلفَ مَرة، الجَماعة التي تتبع المثل القائل “اللي بيتجوز أمي بقولو عمي” – بعد انتهاء عام 2011 (وهو الحد الفاصل الذي وضعته كمُهلة لكي يُقرر من لديه شُكوك بالثَّورة موقفه) وضعت الرمادي في كفة واحدة مع المُؤيد. لذا قمت بدون أسف بإزالتهم من قائمة أصدقائي وقاطعتهم وسأقاطعهم حتى آخر العُمر إن شاء اللـه حتى من غيرَّ موقفه ووقف مع الثورة فيما بعد.
وأخيرًا أقول $%#$^#%$#@$%# للرمادي قبل المُؤيد، اللـه لا يعطيهم عافية نزعوا سُمعة اللون.
انا من متابعينك بشدة اتمني لك التوفيق في مدونتك وموقعك تحياتي
هذا ما اصطلحنا على تسميته مع بعض الأصدقاء “بالشامي الحربوء”